تاريخ زراعة الأعضاء… ثورة طبية غيرت مصير الإنسان

زراعة الأعضاء.. من التحدي إلى الثورة الطبية
لطالما شكّلت فكرة استبدال عضو تالف في جسم الإنسان بحلٍ بديلٍ حلمًا بعيد المنال. واليوم، لم تعد زراعة الأعضاء مجرد خيال، بل أصبحت علمًا دقيقًا ينقذ مئات الآلاف من الأرواح سنويًا حول العالم.
تعود جذور الفكرة إلى محاولات بدائية في العصور القديمة، حيث وُجدت إشارات في المخطوطات الطبية القديمة إلى تجارب أولية في ترقيع الجلد أو استبدال بعض الأجزاء الظاهرة من الجسد. إلا أن القفزة الحقيقية لم تحدث إلا في القرن العشرين، حين بدأت أولى المحاولات الجادة لزراعة الأعضاء الداخلية.
في عام 1954، دخل الطب مرحلة جديدة بعد نجاح أول عملية زراعة كلى بين توأمين متطابقين في الولايات المتحدة، بقيادة الطبيب جوزيف موراي، الذي توّج لاحقًا بجائزة نوبل نظير إنجازه. تبع ذلك سنوات من التطور الطبي والبحث العلمي، أثمرت عن نجاح أول زراعة قلب في عام 1967، وعمليات متقدمة لاحقًا شملت الكبد، الرئتين، البنكرياس، وأعضاء أخرى أكثر تعقيدًا.
لم تكن الطريق سهلة، فقد شكّل رفض الجسم للعضو المزروع التحدي الأكبر، إلى أن ظهرت أدوية مثبطات المناعة مثل “السيكلوسبورين”، التي غيّرت المعادلة وجعلت الزراعة أكثر أمانًا وفعالية. ومع نهاية القرن العشرين، كانت زراعة الأعضاء قد تحولت إلى ممارسة طبية راسخة، مدعومة بأنظمة متكاملة للتبرع والنقل والمتابعة، وتحت إشراف أخلاقي وقانوني صارم.
اليوم، ومع تطور التكنولوجيا الحيوية، بدأنا نشهد آفاقًا جديدة لزراعة الأعضاء، مثل الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد، والزراعة من الخلايا الجذعية، وحتى تطوير أعضاء صناعية ذكية. كما أصبحت زراعة الوجه واليدين والرحم واقعًا في بعض الدول المتقدمة.
في العالم العربي، شهدت السنوات الأخيرة نهضة ملموسة في هذا المجال، تقودها مراكز متخصصة في السعودية، مصر، الأردن، ولبنان. ولعل المملكة العربية السعودية برزت بشكل خاص من خلال إنشاء برامج وطنية للتبرع وزراعة الأعضاء، ومراكز طبية مرجعية مثل مركز زراعة الأعضاء في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام – أحد مكونات تجمع الشرقية الصحي -، والذي بات منارة إقليمية في هذا المجال.بفضل الله… علم يتطور لإنقاذ الأرواح
لم تكن زراعة الأعضاء لتتحقق لولا فضل الله أولًا، ثم بما وهب عباده من العلم والعقل والبحث، حيث قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، وبهذا العلم تطورت التقنيات الطبية حتى أصبحت زراعة الأعضاء اليوم وسيلة واقعية لإنقاذ حياة الإنسان بعد أن كانت حلمًا بعيد المنال.
إن هذه الثورة الطبية ما هي إلا ثمرة من ثمار التيسير الإلهي، حيث سخر الله للإنسان أدوات الفهم والتجريب والاكتشاف، فكان الطب الحديث ـ ومنه زراعة الأعضاء ـ من أوجه الرحمة التي أودعها الله في خلقه، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 215] إشارة إلى أن كل عمل إنساني نافع هو محل علم ورضا من الله إذا قصد به الخير.
إن قصة زراعة الأعضاء هي قصة الإصرار الإنساني على تحويل الألم إلى أمل، والعجز إلى شفاء. هي شهادة على قدرة الإنسان، بعلمه وإرادته، على إعادة الحياة من جديد، عضواً بعضو، ونبضاً بنبض.